الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة التقرير الثالث عن مجالس الحمامات: التصورات الابداعية والسياسية في مرايا الحرّيات

نشر في  05 أوت 2017  (18:38)

حاتم التليلي

شهد مهرجان الحمامات الدولي، في دورته الثالثة والخمسين، في الثالث من شهر أوت لهذه السنة آخر لقاء من لقاءات مجالسه المعدّة للبحث في موضوع الهويّة واستشراف المستقبل في ضوء الراهن الحاليّ. ولمّا تناول كلّ من المجلس الأوّل والثاني هذا الموضوع من زاوية أكاديمية وعلميّة من قبل عديد الروائيين والباحثين وبعض من الاعلامين، ذهب المجلس الثالث إلى محاورة هذه المسألة من زاوية ابداعيّة عبر حضور فنانين مختصين في المجال المسرحي والسينمائي والفن التشكيلي مثل الفاضل الجعايبي ورشيدة التريكي وحسين التليلي وهشام بن عمار ومن زاوية سياسيّة أيضا كان صداها مع اعلاميين وباحثين خاصة مع اللبنانيين "بيار أبي صعب" و"داغر شربل".

بعد الترحيب بالحضور من قبل الأستاذة رشيدة التريكي وتقديمها الضيوف، وبعد كلمة قصيرة كانت للفاضل الجعايبي وجّه من خلالها التحيّة إلى الاعلاميّ الللبناني بيار أبي صعب، كانت الكلمة الأولى لهذا الأخير، ويمكن القول أنّها كانت في مرماها سياسيّة بامتياز، إذ بعد تقديمه التحيّة واعترافه بالجميل إلى إدارة المهرجان والمبدعين التونسيين من الفاضل الجعايبي وجليلة بكار إلى فقيدة المسرح التونسيّ رجاء بن عمّار، أَشْكَلَ مداخلته من زاوية الحلقة المفقودة بين هذا الجيل والجيل اللاحق ليبحث فيما بعد عن الاشكاليات المحيطة بالتباسات ما اصطلح عليه "بالجيل الطلائعيّ" ولم يفته في ذلك أن عرّج على نموذج تونسيّ شبابيّ من خلال اسم "حاتم دربال" كأحد أفراد هذا الجيل الذين أتيحت لهم الفرصة  لإثبات نجاعتهم الفنيّة والادارية.

ذهب "بيار" منذ أوّل مداخلته إلى نقد "ظاهرة الربيع العربي" معلنا في ذلك عن الاستثناء التونسيّ من حيث نجاحه في تخطّي الكابوس الدمويّ الذي لحق كلّ من سوريّة وليبيا وبدرجة أقل قليلا مصر، حيث شهدت محاولات شعوب تلك الدول في زرع التعددية والديمقراطية وكنس الأنظمة الدكتاتورية اجهاضا رهيبا ومخيفا. في محاولة منه إلى تفكيك أسباب هذا الاجهاض ذهب صاحب المداخلة إلى القول بأنها تعود في جانب منها إلى غياب الهاجس الديمقراطي من جهة، ومن جهة أخرى حذّر من الآخر الغربيّ الذي كان سببا قويّا في سرقة تلك الثورات من خلال التدخّل وتحريكها بغاية طمس طبيعة الصراع الحقيقي القائم بين الأنظمة الاستبداديّة وشعوبها الباحثة عن الحرية والكرامة. من هذا المنطلق كان لزاما النظر إلى هذا الغرب لا من باب المشترك الثقافيّ والحضاري بصفته يمثّل عنوان الانسانية برمّتها وإنما من باب مصالحه السياسية والاقتصادية، إذ هو غرب لم يقبل بنا بعد كشعوب تقرّر مصيرها بنفسها.

في هذا الاطار وجّه "بيار" نقدا لاذعا إلى المجتمع المدنيّ، ليكشف بشكل لا يخلو من جرأة، إلى أنّه يعدّ المدخل الأسهل والأنجع لهذا الغربي الذي من خلاله يستطيع توجيه تلك الثورات إلى معادلته الخاصّة، فهو من جهة يغذّي تلك المسائل الحارقة ويساندها كمسألة الحريات الفردية وحرية المرأة إلا أنّه من جهة ثانية يغرق منظومتها بأموال طائلة حتى يتسنى له توجيهها فيما بعد كما شاءت له مصالحه، وكنموذج على ذلك، ضرب "بيار" مثلا صاعقا وخطيرا حين تحدّث عن الحراك اللبنانيّ الأخير (الانفجار الشبابيّ والحراك المدنيّ وظاهرة الثورة ضدّ النفايات) ليكشف أنّه ثمّة من التونسيين من قدم إلى لبنان وساهم بشكل كبير في ايقاد شعلة الغضب تلك، وللأسف فهو مرتبط تمام الارتباط بمنظمة "فريدوم هاوس" وقد دخل لبنان في اطار مهمّة كتلك. ثمّة إذن ضرورة لبناء الذّات أعلنها "بيار"، فهذا الجيل الطلائعيّ عليه أوّلا أن يحدّد علاقته بالآخر الغربي والوعي بخطره، أمّا مسألة الهويّة وما لحقها من شبكة شاسعة من بحوث وتساؤلات فقد كان الأجدر أن يتمّ استنطاقها من داخل الراهن العربي وماضيه وموروثه بما في ذلك مقدّسه، ولن تكون ثمّة اتجاهات صحيحة لبوصلتنا إلا من خلال ذلك.

ختم "بيار" مداخلته بمثال آخر، ألا وهو مثال "ميشال بوجناح"، ليسلّط نقدا لاذعا وجّهه لا إلى المدافعين عن هذا الصهيونيّ وحدهم ولا حتى إلى رافضيه، بل إلى طريقة تناول مسألة وجوده في مهرجان قرطاج من عدمها، وهي طريقة عبثيّة في نظره، وهي إن كانت تنمّ على شيء فهي تبرز العقم الفكري والسياسيّ الراهن، ليعبّر فيما بعد عن موقفه الخاص والمتمثّل في أنه كان من الأجدر أن لا تكون اسرائيل وجهة نظر، فليس باسم الحريات نتحدث اليوم عن انفتاح مع مجرمين: لقد ساهم هذا الراهن في أن يجعل من الجيل الجديد حصان طروادة محض.

كانت المداخلة الثانية للمسرحيّ التونسيّ فاضل الجعايبي، سرد من خلالها وبشكل مقتضب تجربته المسرحيّة منذ مجموعة قفصة حدّ الآن، مبرزا أهمية الفعل المسرحيّ في تصديه للأنظمة الدكتاتوريّة ومتحدثا في نفس الاطار عن ضرورة ربط الجسور بين الأجيال، إلا أنّه لم يخف تشاؤمه الحاليّ تجاه الجيل الحالي برمّته، موجّها في معرض حديثه نقدا إلى النخب كما الجمهور المسرحيّ، حيث غابت الدراسات والبحوث وسادت ثقافة الابتذال ممّا خلق نوعا من القطيعة بين الفعل المسرحيّ والفعل الاجتماعيّ ما جعل من هذا الفنّ يعيش حالة من الاغتراب القصوى فلا هو نخبويّ بدرجة واضحة، ولا هو شعبيّ أيضا. إضافة إلى ذلك، ورغم أنّه لمّح إلى محاولات المسرح الوطنيّ الحالية في خلق نوع من الجسور مع الأجيال الجديدة إلا أنّه لم يخف تهكّمه من المعاهد التي باتت في نظره لا تنتج فنانينا بقدر ما تنتج جيلا محفوفا بغير قليل من اللامبالاة، وحتى أنّه بعد الثورة وبعد مساحة التعبير الكبيرة المتوفرة لم يستطع هذا الجيل الشبابي في نظره تقديم مسرح حقيقيّ وفعليّ.

قد يكون الفاضل مصيبا في ذلك، إلا أنّ تحميل المسؤوليّة إلى هذا الجيل وحده أمر قد ينمّ على نوع من الهروب، فالتشاؤم أو اليأس لا ينمّ بدوره إلا عن حالة عجز لم تولّد بدورها إلا ضرب من السخرية المتبادلة بين "الأب" و"الإبن"، وهي حالة عامّة للأسف لا نجدها في القطاع المسرحيّ وحده بل في جلّ القطاعات السياسية والثقافية حدّ السواء.

بعد كلّ من حسين التليلي وهشام بن عمار، حيث عالجا قضية الراهن الفنّي من زاوية الاشارة إلى الفنّ السينمائيّ والتشكيلي، كانت الكلمة الأخيرة للأستاذ "داغر شربل" الذي ذهب إلى القول بضرورة استنطاق التاريخ وعلم الاجتماع من جديد، وبشكل لا متوقّع ذهب إلى القول بأنّه ما من شعب عربيّ قادر على انجاز ثورة ليدلي بحجج مختلفة ومتنوعة دفاعا عن أطروحته تلك تمثّلت في كون الشعوب العربية لم تبلغ أبدا "مفهوم الدولة"، إذ هي ترزح تحت أعباء مؤسسات وأجهزة لم تصل بعد لتعطي الكيان الخاص الذي الدولة ذاتها في مفهومها المدنيّ، إذ أنّها منذ اجتماع السقيفة بعد موت الرسول العربي ظلّت ترزح تحت وطأة الحكومات الاسلاميّة التي تلتها فيما بعد أشكالها "السلالية" لا غير.

في هذا الاطار استثنى "داغر شربل" التجربة التونسية وحدها دون باقي تجارب الدول العربية، ليدلي فيما بعد بأسباب هذا الاستثناء الذي عاد في نظره إلى الارث البورقيبي وإلى غياب التعددية المذهبية والدينية والطائفيّة في تونس وإلى غياب البناء القبلي.

أثار هذا المجلس وما تناوله من قضايا حارقة حفيظة البعض من الحضور الذين لم يتورّعوا فيما بعد إلى طلب النقاش، إذ ذهب البعض من الاعلاميين إلى نقد نموذج من مداخلات المحاضرين، إذ كيف يتمّ تناول هذه المسألة بصفتها تبحث في عمق الموروث العربي ومحنه الحالية ومسائل هويته الملتبسة بلغة غير اللغة العربية وهي الفرنسيّة. على صعيد آخر لم يتمالك البعض من إعطاء منظوره  الخاص حول مسألة وجود "بوجناح" في تونس ليعلن من جهة مساندته المطلقة إليه متعللا في ذلك بكونه تونسيّ ومتعاطف مع تونس، ومن جهة ثانية استغرابه من الفنانين الذين أمضوا عريضة ضدّ تواجد بوجناح في تونس، ما دفع بالنقاش إلى سجال كبير كانت فيه الكلمة الأخير إلى "بيار أبي مصعب" الذي أعلن وبشكل حاسم نقده مثل هذه التصورات لأنّها بشكل أو بآخر تجعل من اسرائيل وجهة نظر ومحلّ قبول باسم حرّية التعبير.